"طريق الكنز تفترشه الدماء".. لماذا يستخدم مصريون أطفالاً قرابين للبحث عن الآثار؟

"طريق الكنز تفترشه الدماء".. لماذا يستخدم مصريون أطفالاً قرابين للبحث عن الآثار؟

جرائم القربان والبحث عن الآثار.. التحديات القانونية والحقوقية في مصر

خبير حقوقي: قتل الأطفال لأغراض خرافية يتعارض جذرياً مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان 

خبير قانوني: ضرورة تغليظ العقوبات تجاه جرائم قتل الأطفال بحثاً عن الآثار

أستاذ آثار: علاج هذه الظاهرة يتمثل في رفع الوعي لدى الناس وتغليظ العقوبات

العدالة والمساءلة.. كيف يواجه القانون جرائم التنقيب غير الشرعي عن الآثار؟

 

في قلب الريف المصري، حيث تتمازج التقاليد بالحضارة، شهدت قرية الهمامية بمحافظة أسيوط جريمة تقشعر لها الأبدان وتغوص في أعماق الوحشية الإنسانية. حيث قُتل الطفل محمد أبو الوفا مهران، البالغ من العمر 6 سنوات، في حادثة مروعة تُعيد إلى الأذهان قصص الأساطير القديمة عن القرابين البشرية. 

تم اختطاف محمد وذبحه وتقطيع أطرافه، ليس بسبب ضغينة شخصية أو انتقام، بل كقربان لفتح مقبرة فرعونية قديمة، في سعي بائس وراء الكنوز الدفينة. 

هذه الجريمة ليست مجرد حادثة معزولة، بل هي جزء من ظاهرة أوسع تتعلق بالتنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر، حيث تشير التقارير إلى وقوع أكثر من 6000 حالة تنقيب غير شرعي في عام 2022 وحده.

الجشع والرغبة في الثراء السريع دفعا البعض إلى ارتكاب أفظع الجرائم، متجاهلين كل القيم الإنسانية والأخلاقية، القتلة وهم أبناء عمومة الطفل، ارتكبوا هذه الفعلة بناءً على نصيحة شيخ دجال، اعتقدوا أن دماء الطفل البريء ستفتح لهم بوابات الكنز الفرعوني. 

يروي والد الطفل، عصام أبو الوفا مهران، تفاصيل الكارثة بحزن يمزق القلوب في يوم عيد الأضحى، خرج محمد للعب أمام منزله، لكنه لم يعد، بحث الوالد المكلوم عنه في كل مكان، واتصل بهاتفه مرارًا دون جدوى في تلك اللحظات، كان أبناء عمه الذين يساعدونه في البحث هم أنفسهم الجناة الذين خطفوا وذبحوا ابنه. عند العثور على جثة محمد في إحدى مزارع الذرة، كان المشهد أكثر من أن يوصف: أطرافه مبتورة وجسده الصغير ملقى بين النباتات، كأنه مشهد من كابوس لا يرحم.

تحقيقات الشرطة كشفت عن تفاصيل تقشعر لها الأبدان، المتهمون اعترفوا بأنهم ارتكبوا الجريمة بدم بارد بناءً على طلب شيخ زعم أن تقديم الطفل كقربان للجن سيمكنهم من فتح المقبرة الفرعونية والاستيلاء على كنوزها.

هذه الحادثة تعكس جانبًا مظلمًا من النفس البشرية، حيث يمكن للخرافة والجشع أن يدفعا البعض إلى ارتكاب أفعال تتجاوز كل الحدود الإنسانية. هذه الجريمة ليست مجرد حادثة عابرة في سجل الجرائم، بل هي جرس إنذار يدق في ضمير المجتمع بأسره. 

تدعو هذه المأساة إلى وقفة حازمة لمواجهة التنقيب غير الشرعي عن الآثار، وتكثيف جهود التوعية ضد الخرافات التي تستغل جهل البعض لتحقيق مكاسب مادية على حساب الأرواح البريئة، كما تدعو إلى إعادة النظر في التشريعات وتشديد العقوبات على الجرائم المرتبطة بالتنقيب غير الشرعي. 

دماء محمد أبو الوفا مهران ليست مجرد رقم في إحصائيات الجرائم، بل هي قصة تروي حكاية الحزن والألم، وتحثنا جميعًا على الوقوف ضد كل ما يهدد براءة الأطفال وأمان المجتمع. 

ذبح القربان لفتح المقابر الفرعونية في مصر بين الأسطورة والواقع                            

في سبتمبر من عام 2021، شهدت إحدى قرى مركز ديروط بمحافظة أسيوط جريمة مروعة تمثلت في ذبح شاب وتقطيع جثته لتقديمها قرباناً للجن لفتح مقبرة أثرية، اعترف عمه وأبناء عمه وزوجة عمه بارتكاب الجريمة، بعدما تم القبض عليهم واكتشاف تورطهم في هذه الفعل الوحشي. 

هذه الحادثة ليست استثناءً، بل هي جزء من سلسلة من الجرائم المماثلة التي تكررت في مصر عبر السنوات، تتكرر هذه الجرائم على فترات متباعدة، سواء كانت سنة أو عدة سنوات أو حتى عدة أشهر، ويكون ضحاياها غالباً من الأطفال.  

المفجع في الأمر أن مرتكبي هذه الجرائم يكونون في كثير من الأحيان من الأقارب، وأحياناً حتى الأب أو الأم، تكشف تحريات الشرطة عادةً أن الدافع وراء هذه الجرائم هو البحث المزعوم عن الآثار، حيث يستغل الدجالون طمع وجشع الناس لإقناعهم بضرورة تقديم قرابين بشرية لفتح المقابر الفرعونية. 

تلك الطقوس المرتبطة بالبحث عن "المساخيط"، كما يسميها البعض في صعيد مصر، تتضمن وجود شخص يدعي أنه شيخ متخصص في فك الطلاسم الفرعونية لفتح المقبرة. غالباً ما يتبين بعد القبض على هؤلاء الأشخاص أنهم دجالون معروفون بين الباحثين عن الآثار بـ"شيوخ العزيمة".  

هؤلاء الدجالون يطالبون بأموال طائلة ويشترطون إراقة دماء كقرابين، وفي بعض الحالات تكون تلك الدماء بشرية، وغالباً ما تكون دماء أطفال، هذه الممارسات أدت إلى مقتل العديد من الأطفال والكبار، ليس فقط بسبب القتل لتقديم القرابين، بل أيضاً نتيجة الحوادث الناتجة عن التنقيب غير المشروع عن الآثار. 

العديد من الباحثين غير المؤهلين يتعرضون لحوادث انهيار الحفر عليهم أثناء التنقيب بدون معدات أو دراسات علمية مناسبة. 

السلطات المصرية أعلنت عن عدة حوادث من هذا النوع، ولم تقتصر هذه الحوادث على محافظات معينة بل وقعت أيضاً في القاهرة.

الغريب أن هذه الظاهرة لا تقتصر على فئات اجتماعية معينة، حيث شهدت البلاد محاكمة وإدانة رجل أعمال شهير بتهمة الاشتراك في شبكة تنقيب عن الآثار بالتعاون مع نائب برلماني سابق، الذي اشتهر إعلامياً بـ"نائب الجن والعفاريت" لزعمه قدرته على تسخير الجن لفتح المقابر الأثرية. 

هذه الجرائم تسلط الضوء على التحديات التي تواجه المجتمع المصري في التعامل مع الأساطير والخرافات التي تسيطر على بعض العقول، وتظهر الحاجة الملحة لزيادة الوعي والتثقيف لمحاربة هذه الظواهر الخطيرة. 

تدمير الأسر والمجتمع

وقال الحقوقي الأردني البارز، كمال المشرقي، إن قتل الأطفال بغرض العثور على آثار فرعونية يمثل انتهاكاً صارخاً ومروعاً لحقوق الطفل، هذه الجرائم ليست فقط جريمة قتل، بل تجسد أقصى درجات الاستغلال والانتهاك للبراءة والضعف، إن قتل الأطفال لأغراض خرافية يتعارض بشكل جذري مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان وحقوق الطفل، حق الطفل في الحياة والأمان يعد من أبسط الحقوق التي يجب أن تكون مكفولة في أي مجتمع. 

وأضاف في تصريحاته لـ"جسور بوست"، الأطفال هم الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع، ويجب أن تكون حمايتهم أولوية قصوى، هذه الجرائم البشعة تزعزع الثقة في الأمان المجتمعي وتثير الرعب والخوف بين الأسر، يتعارض قتل الأطفال بهدف العثور على آثار فرعونية مع كل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية حقوق الطفل التي تؤكد حق كل طفل في الحياة والنمو في بيئة آمنة ومحبة.  

وتابع، هذه الجرائم تدمر حياة الأسرة والمجتمع بأكمله، وتخلق جواً من الرعب لا يمكن تجاهله، علاوة على ذلك، تعكس هذه الجرائم تدهوراً أخلاقياً وانحداراً في القيم الإنسانية، يجب أن يكون هناك موقف حازم من الدولة والمجتمع لرفض هذه الممارسات البشعة وتطبيق العدالة بشكل صارم على مرتكبيها. 

وأكد أن التعليم والتوعية حول حقوق الطفل وأهمية حماية الأطفال من الاستغلال والانتهاك يجب أن تكون جزءاً أساسياً من استراتيجية الدولة والمجتمع المدني لمكافحة هذه الظاهرة. 

وأتم، قتل الأطفال بهدف العثور على آثار فرعونية هو جريمة شنيعة تتعارض مع حقوق الطفل وكل معايير الكرامة الإنسانية، يجب التصدي لها بكل قوة وحزم لضمان مستقبل آمن للأطفال في كل مكان.

كمال المشرقي

ظاهرة ذبح القربان في صعيد مصر.. خرافات الثراء السريع والضحايا الأبرياء 

وقال أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة بجامعة القاهرة الدكتور أحمد بدران، إن تقديم ما يُعرف بالقربان للجن أو الرصد يعد ظاهرة شائعة في صعيد مصر، وذلك بسبب حلم الثراء السريع عن طريق الحفر خلسة للبحث عن الآثار، وأوضح أن السبب في انتشار هذه الظاهرة يعود إلى بعض الدجالين والمشعوذين أو من يسمَّون بالروحانيين أو "الشيوخ النصابين"، الذين يقومون بإيهام الضحايا بوجود كنز أو مقبرة تحت منازلهم محروسة من الجن أو الرصد، ويؤكدون لهم أن فتح باب المقبرة يتطلب تسييل دم بشري.

وأشار في تصريحاته لـ"جسور بوست"، إلى أن حادثة أسيوط تأتي في هذا السياق، موضحاً أنها ليست الأولى من نوعها، حيث سبقها العديد من الضحايا الذين كانوا غالباً من الأطفال واستشهد بحادثة سابقة في الفيوم، حيث حاول أب تقديم طفله قرباناً، وعندما رفضت الأم، قتلها بديلاً عن الطفل. 

وأكد أن هذه المعتقدات لا أساس لها من الصحة ولا ترتبط بمصر القديمة، حيث كان المصري القديم يخفي أماكن الدفن التي تحتوي على المتاع الجنائزي بعيداً عن العيون لتأمينها ضد السرقة، ولم يسخر الجن أو الرصد لحراستها، وأوضح أن المقابر التي يتم اكتشافها وفتحها من خلال الحفائر العلمية والتنقيب الأثري لا تتطلب قرابين أو إراقة دماء. 

وشدد على أن علاج هذه الظاهرة يتمثل في رفع الوعي لدى الناس وتغليظ العقوبات القانونية لمواجهة النصابين والمشعوذين والدجالين.

ودعا إلى تسليط الضوء الإعلامي على هذا الموضوع لزيادة الوعي بين الناس ومنع وقوع المزيد من الضحايا الأبرياء.

الدكتور أحمد بدران

الرادع القانوني

وقال خبير القانون الدولي، مصطفى سعداوي: في مصر، يوجد قانون كامل لحماية الآثار، وهو القانون رقم 117 لسنة 1983 والمعدل برقم 91 لسنة 2018، وتنص المادة 49 من الدستور المصري على أن الدولة تلتزم بحماية الآثار والحفاظ عليها، ورعاية مناطقها، وصيانتها، وترميمها، واسترداد ما استولي عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه. 

وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست"، كما تحظر المادة إهداء أو مبادلة أي شيء من الآثار، وتعتبر الاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم، وتنص المادة 42 من قانون العقوبات المصري على عقوبات مشددة على من يسرق أثراً أو جزءاً من أثر مملوك للدولة، أو يقوم بإخفائه أو يشترك في ذلك، حيث يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 3 آلاف جنيه ولا تزيد على 50 ألف جنيه. 

مصطفى سعداوي

ويرى سعداوي أن هذه العقوبات لم تعد تتلاءم مع جرائم التنقيب عن الآثار في شكلها الحالي، والتي تشتمل على جرائم تصل إلى القتل ومع ذلك، ذهب القضاء المصري إلى تطبيق عقوبات أشد باستخدام مواد أخرى في قانون العقوبات على الجرائم الجنائية المقترنة بجرائم التنقيب عن الآثار.

وأضاف، أبرز مثال على ذلك وقع في محافظة الجيزة عام 2023، عندما اغتصب دجال طفلة في منزلها أمام والدها بدعوى أن الجن يأمره بذلك لفتح مقبرة أثرية أسفل المنزل، تم القبض على الأب الذي توفي في الحبس، بينما عاقبت المحكمة الدجال بالسجن المشدد لمدة 15 عاماً لاغتصاب قاصر بدعوى تقديمها قرباناً لفتح مقبرة أثرية.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية